يلزم الواقع في العراق المشتغلين في مؤسسات صناعة الرأي العام ولاسيما المستقلة منها استنباط مشروع ميثاق صحفي مستمد مـن رؤية وطنية تدرك ابعـاد الازمة وتوقف زحـف اثارها البعيدة. ويمثـل هـذا الميثاق، في واقع الأمر نظرية أو رؤية جديدة من نظریات او رؤى المسؤولية المهنية للصحافة تضاف الى ماعهدناه من مواثيق لم تفلح في بسط نفوذها بين الصحفيين العراقيين وتعقد مصالحة وطنية بين مؤسساتهم بحيث تعيد النظر بجميع مسلماتها وتقاليدها المتشددة السابقة.
واننا اذ نقدم هذا المشروع نعتقد جازمين بانه قابل للاضافة والتعديل بحيث يستجيب، في ما بعد، الى اكبر عدد من المكونات الصحفية ويمثل قاسماً مشتركاً لها.
ونحن ايضاً نذهب الى الاعتقاد بـأن صياغـة ميثاق ينطوي على هذه الاهمية لايمكن ان يقتصر بأي حـال من الاحوال على الصحفيين حسب، ذلك ان ميدان الصحافة
كتابة صحافة بلد ملتهب – تاليف الأستاذ الدكتور أحمد عبد المجيد – صفحة ٨٥
بعـد ان شهـد فتوحات تكنولوجية جديدة بـات يتسع اليوم ليشمل نواحي النشاط الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافة داخل البلاد وخارجها.
ويتكون مشروع الميثاق المقترح من اربعة اقسام هي:
اولا: قسـم مهنـي يعنى بتطوير ادوات وعناوين الصحافـة وملاكاتهـا البشرية من حيث الحقائق النفسية والمعيشية والوطنية ويفرض قواعد الممارسة المهنية المبنية على الانصاف والتوازن والدقة والموضوعيـة ذلك ان اهم قواعد الاحتراف تتمثل بفصل المشاعـر عند صياغة محتوى التقارير والاخبار . ولعل هذا الترابط مـرده ماحصـل للعـراق من اغـراق منظـم وقسري ومسنود بقوة الجماعات المسلحة لتسييد صحافة الطائفة بدلاً من صحافة الوطن الـذي ينزف يومياً ويعاني هول الكارثة الانسانية التي يتعرض اليها.
حيث تذكر الاحصائيات انه تم اغتيال 220 عالماً ومفكراً واكاديمياً عراقياً،كما قتل فيه من الصحفيين ثلاثة أضعاف من قتلوا خلال حرب فيتنام التي استمرت نحو 10 سنوات. ونشرت صحيفة (لانسيت) البريطانية تقرير جامعة جونز هويكنز الامريكية الذي يفيد بان عدد القتلى من العراقيين يبلغ 650 ألف شخص بين نيسان 2003 وتشرين الاول 2006، واعلنت منظمة (حرية المرأة) العراقية ان عدد النساء المخطوفـات منـذ 9 نيسان 2003 بلغ ألفي امـرأة. كما اكد تقرير للامم المتحـدة ان اكثر مـن 90 امرأة عراقية تترمـل يومياً ويوجد في بغداد وحدها نحـو 300 ألف أرملة فيما يعيش أكثر من نصف مليون طفل تحت وطأة الامراض النفسية بسبب الرعب المتواصل داخل العراق.
كتابة صحافة بلد ملتهب – تاليف الأستاذ الدكتور أحمد عبد المجيد – صفحة ٨٦
فضلاً على ذلك فـان حجم هذه الكارثة يتسع اذا نظرنا الى خارج الحدود لمأساة يتعرض اليها اكثر من 3 ملايين مهاجر تركوا العـراق بحثاً عن ملاذ آمـن هرباً من العنف الدموي الاعمى. وبهذا الخصوص تتحمـل الصحافة العراقية مسؤولية اهمال هذا القطاع العريض سواء من حيث تجاهل معاناته أم عدم ايصال صوت الوطن اليه.
ان مشروعنا مبني على الاعتقاد والايمان بقدسية رسالة الصحافة في عقد المصالحة بين الداخل والخارج والتـزام روح الوسطية والتسامح بديلاً عن ثقافة العنف والاقصاء التي يتفق معظم العراقيين على عدها ثقافة مستوردة كرسها الاحتلال والاعلام الوافد والتدفق الصحفي الدولي الذي اطاح بآمال الصحفيين العراقيين في نشر التفاؤل والأمـل والسلم الأهلي في ربوع العراق. فـاذا كان اليأس والدعاية المضللة المتواصلة قد انحرفت ببعض الشعوب تحت ضغط ظروف معيشية قاسية، فانه يتعين على الصحافة العراقية ان تعمـل بسرعة واخلاص حتى لاتتكرر مأساة الحروب الأهلية في بقاع اخرى من عالمنا.
نحن نطالـب الصحافة اذن بان تخلع رداء السلبية عنهـا وان تدخل ميدان المعركة الكبرى مع نفسها لكي تؤدي دورها الايجابي الذي يحتمه عليها الارتباط الوثيق بين تاريخ وبين كفاح الشعوب وتقدمه.
ومـن هنا، نقترح الآتي في الصعيد المهني لمواجهة المخاطر التي تهدد الصحافة المستقلة، والاستجابة لاستحقاقات المرحلة المقبلة:
ضرورة اعتماد المهنية الرصينة واستحضار مواثيق الشرف الصحفية في معالجة كل شأن عراقي.
كتابة صحافة بلد ملتهب – تاليف الأستاذ الدكتور أحمد عبد المجيد – صفحة ٨٧
التعاون في التعاطي مع الخيارات المستقبلية المفتوحة، ولاسيما مايتعلـق منها بتغليب المصلحة الوطنية والمسؤولية الاجتماعية، من دون ان يعني ذلك المساس بسقف الحريات العامة والخاصة.
الالتزام بقواعـد النشر المكفولة بالمواثيـق الصحفية الدولية، والنـاي عن التشهير والتجريح واثارة الأحقاد والنعرات أيا كان شكلها او مصدرها بخاصة الطائفية منها. فضلاً على اختيار ادارات صحفيـة كفوءة. فالخلل الاداري مهما كان بسيطاً ينعكس مباشرة على الصفحات المطبوعة.
أما القسم الثاني فهو سياسي يستعيد الثوابت والمبادىء الوطنية ويسعى لتكريسها لمواجهة محاولات تغييب الهوية لحساب أهداف اخرى. وهنا نقترح الآتي:
وضع مصلحة العراق في مقدمة الأهداف والأولويات، وتغليب الهوية الوطنية على ما عداهـا، من دون أي انتقاص من الهويات الاخـرى، أو أي استعلاء على الخصوصيات الثقافية لفرد أو جماعة أو مذهب أو قومية. رفض أي شكل من أشكال الوصاية على الصحافة ووسائل الاعلام الأخرى، من أي طرف، حزبياً كان أم حكومياً.
التمتع بأقصى درجات الوعي وكشف محاولات الدس أو التدليس الخبـري والتسريبات التي من شأنها الاساءة الى بعض الأطراف السياسية والاجتماعية أو الايقاع برموزها لاعتبارات أنانية وغير موضوعية.
ضمـان حرية عمـل المشتغلين في الصحافة ووصولهم الى المعلومات لاغراض العمـل الصحفي البحت ورفض استخدام
كتابة صحافة بلد ملتهب – تاليف الأستاذ الدكتور أحمد عبد المجيد – صفحة ٨٨
الصحافة والصحفيين لخدمة مرامي بعض الاجهزة الاستخبارية التي تعمل ضد مصلحة العراق والتفريق بين النزاهة الصحفية والانحياز المبيت لصالح تبني طروحات او مواقف جهات سياسية أو استخبارية عابثة بهذه المهنة. كشـف مـصـادر التمويل والعمـل على الارتقاء بالصحافة من خلال رفض مساومتها ماليا(7).
وعلى الصعيـد الأمني وهو القسم الثالث مـن المشروع فاننا نقترح الاتي انطلاقاً من ايماننا بان الصحافة تمتلك الضمير والدور اللذين يؤهلانها لتأمين استقرار العراق وتحقيق أمن مواطنيه. التـزام رفض استخدام العنف لتحقيق أهداف سياسية وتجنب الوقوع في شراك المتورطين باستخدام العنف بكل انواعه ومصادره من اغتيال وتفجير وتخريب، بذريعة الحصول على معلومات. العمـل على تحصين المواطنين من محاولات الايقاع بهم واحباط العمليات الضارة بالمجتمع وكشف السياسيين المتورطين في الاغتيال السياسي وتدبير التفجيرات.
التدقيق في نشر الأخبار والتقارير وتحاشي التعامل مع الاخبار والتقارير والبيانات الملفقة والمفتعلة والمفبركة وغير الدقيقة.
كمـا نقتـرح في القسم الرابع من المشروع على الصعيد الحكومي:
اعلان التزام الحكومة بعدم استخدام وسائل الصحافة الحكومية ضـد الصحافة الوطنية المستقلة والصحفيين المستقلين وعد ذلك نوعاً من أنواع أرهاب الدولة.
ولتنفيذ هذه الغاية يتعين:
ا: تشكيل تكتل اعلامي- صحفي للحصول على الاعلانات مـن الـوزارات والادارات العامة بأساليب مشروعة ووقف زحف
كتابة صحافة بلد ملتهب – تاليف الأستاذ الدكتور أحمد عبد المجيد – صفحة ٨٩
من الوزارات والادارات العامة بأساليب مشروعة ووقف زحف المافيات التي تتخذ من معاقل الفساد الاداري وسائل في الاستحواذ على مصادر التمويل ومنها الاعلانات .
ب: مكافحة الفساد في الوزارات والادارات العامة بما يتعلق بالاعـلان، واستخدامه وسيلة للكسب غير المشروع أو الابتزاز أو تصفية الحسابات، وحث مفوضية النزاهة ودوائر المفتشيات العامة في الوزارات والادارات بشكل عام على مراقبة التزام هذه الوزارات والادارات بالضوابط القانونية في نشر الاعلان .
ج: ان الاعلان هو المصدر الرئيس لتمويل وسائل الصحافة وحجبه عنها، يؤثر في تطورها ونموها ويحرم العاملين فيها من مرتبات وأجـور تليق بمكانتهم الاجتماعية وتتناسب والمخاطر التي يواجهونها في اداء رسالتهم الاعلامية بأمانة وشرف ومسؤولية. لذلك يتعين العمل على رفض ماتقوم به بعض اطراف الحكومة من استخـدام غير مشروع للاعلانات وتوزيعها لخدمة احزاب ووزراء ومقربين وهيئات سمسرة تعمل لصالح مسؤولين يتخفون وراءها. حث الحكومة على تعزيز سلطة الصحافة بمحاسبة الافراد والجهـات التـي تحاول النيل من وسائل الصحافـة ومنعها من اداء دورها الرقابي النقدي
حث الحكومة على مساعدة المؤسسات الاعلامية في الحصول على مستلزماتها التكنولوجية والمادية من خلال اعفاءات كمركية وضريبية أسوة بما هو جار في بعض الدول الاوربية.
مطالبـة الحكومة بالحصول على مزيد من فرص التدريب في
كتابة صحافة بلد ملتهب – تاليف الأستاذ الدكتور أحمد عبد المجيد – صفحة ٩٠
العراق وخارجه للعاملين في المؤسسات الصحفية. ولاسيما في مجال (التليماتيك).
وضع ضوابط للمنافسة بين شبكة الاعلام العراقي الممولة من المال العام والمؤسسات الاعلامية المملوكة للقطاع الخاص ومنابر النفع العام.
الالتزام بمنح وسائل الاعلام فرص ايفـاد منتسبيها مع الوفود الحكومية والافادة من مجالات الدعم الحكومي في هذا المجال.
تمكين المؤسسات الصحفية التي لاتملك مطابع خاصة بها، من استثمار مجال الدعم لمطابع شبكة الاعلام العراقي وخلق فرصة
المنافسة مع المطابع الأهلية .
دراسـة إمكانيـة منـح المؤسسات الصحفيـة الـواعـدة فرص استثمـار منشـآت وزارة الاعلام المنحلـة بشروط ميسرة وعقود مساطحـة، والافادة من الملاكات الهندسية الفنية التي ألحقت بوزارة الثقافة وصارت عبئاً عليها، لعدم توفر درجات وظيفية تلائم اختصاصاتها.
سـن قانون يحرم المس بحرية الصحفي أو مضايقته أو تهديده بأي شكل من الأشكال المادية والأمنية.
وفي هذا الاطار يتـداول الصحفيون القـول (ان الاعتداءات والتصفيات والتهديدات والمضايقات التي يتعرض اليها الصحفيون في العراق، ليس مصدرها الجماعات الارهابية والعصابات المسلحة حسب، بل عناصر بعض الأحزاب ومسؤولون في أجهزة مدنية وعسكرية، وجماعات طائفية).
إطلاق سراح الصحفيين المحتجزين حاليا لأي سبب من
كتابة صحافة بلد ملتهب – تاليف الأستاذ الدكتور أحمد عبد المجيد – صفحة ٩١
أسبـاب النشر، سـواء المحتجزين منهم لدى القوات الأمريكية أم القـوات العراقية وعدهـم مشمولين بالقانون الدولي الانساني بغية حمايتهم من الضرر.
تقديم المساعدة اللازمة لمراسلي الصحـف في المحافظات وتوفيـر عناصر الحماية اللازمة لهـم لتمكينهم مـن اداء رسالتهم وإيصال أصوات المواطنين بأمانة ودقة.
الزام وزارة الثقافة وشبكة الاعلام العراقي بوضع المؤسـات الاعلامية التابعة للقطاع الخاص في أولوية اهتماماتها عند توفر الفرص التدريبية والتمويلية والمشاركة في المهرجانات والملتقيات الخارجية.
إنشـاء جمعية تعنى بمؤسسات النشر الصحفي المستقلة في العـراق وتتولى الاطلاع على آخـر التقنيات في مجالات النشر الاعلامي ورعاية مجموعات العمل المنبثقة عنها وتدريب المختصين في مجال الصحافة وتطوير العلاقات مع المنظمات النظيرة في الشرق الأوسط والعالم.
الاستفادة من خبرات وتجارب منظمة الصليب الأحمر الدولية في مجال حماية المدنيين ولاسيما الصحفيين ذلك انه (في حال وجـود ارادة سياسية مقترنة بغياب الامكانيسات او الخبرة اللازمة يمكـن للجنة الدولية تقديم انشطـة دعم من بينها تعزيـز الطاقات المحلية.
كتابة صحافة بلد ملتهب – تاليف الأستاذ الدكتور أحمد عبد المجيد – صفحة ٩٢
الخلاصة
يخلص الباحث الى ان تحديات الواقع الصحفي تتطلب من بيـن امور عديدة تمسكاً من الصحفيين بمسؤوليتهـم المهنية، لما فـي ذلـك من ضمانات تجنبهم مخاطر الانزلاق الى التداعيات التـي تنجم عـادة عن النزاعات الطائفية المسلحة، وتوظيف هذه المسؤولية لمساعـدة الضحايا واشاعة اجـواء التسامح والمصالحة من خلال مبادىء الاخلاقيات المهنية التي تقوم على أساس التوازن والانصاف والدقة والموضوعية. وربما لن يتحقق ذلك الا بميثـاق يتفق الجميع عليه ويترجمه المشتغلون في المهنة الصحفية باعتماد مقومات الاحتراف الصحفي الذي يفصل المشاعر عند صياغة محتـوى التقارير والاخبار. وقد اقتـرح الباحث نظرية او رؤية اولية قابلة للتعديل أو المناقشة لبلوغ هذه الغاية في بلد ينزف وسيستنزف دون رحمة.
كتابة صحافة بلد ملتهب – تاليف الأستاذ الدكتور أحمد عبد المجيد – صفحة ٩٣