مع ان للاعلام العراقي تاريخ طويل، الا انه ابتلي بمشكلات مزمنة عديدة ما اعاق مسيرته، وعطل جزءا كبيرا من ادواره التي يفترض النهوض بها، وعلى الرغم من انه عاصر ازمنة متباينة بما انطوت عليه من تحولات اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية، لكن النظرة الى واقعه تشي وكأنه في بدايات تشكيله، ناسفا تجاربه الثرية ،فضلا عن تعذر بلورة سياقات عمل رصينة، وبذا لم يكن لهذه المسيرة الطويلة أثر في تكوين حصيلة يعتد بها في حاضره، او المساعدة في التعرف على هوية مستقبله، ما جعل تجربته تحتل مراتب متدنية بين التجارب الاقليمية والدولية، وبالتالي أسهم جراء رسائله الركيكة في تشكيل صورة نمطية سلبية في ذهن جمهوره .
واذا كان الاعلام يشكل ركنا اساسيا في الحياة المعاصرة بمستوياتها المختلفة صراعا كانت ام تعاونا ام تنافسا، فأن اعلامنا يفتقد الى الفاعلية التي تؤهله لاداء وظائفه بكفاءة تتيح للمؤسسات المعنية الافادة من منجزاته، ويتصل ذلك بأسباب عديدة تتحمل جهات الاصدار جزءا منها، فيما تقع مسؤولية الجزء الآخر على الفعاليات السياسية والثقافية وغيرها، ونقصد بمسؤولية جهات الاصدار عن عثرات الاعلام تلك القوى والتيارات والسلطات التي وقفت وراءه على اختلاف اشكالها وتوجهاتها بدءا من نقطة الشروع حتى وقتنا الراهن، اذ تتركز المسؤولية الذاتية في هشاشة المنظومة الاعلامية التي اتاحت مساحة واسعة لعمليات اختراق كثيفة ومتباينة، بينما تمثلت مسؤولية الآخر في ضعف ادراك اهميته، او الرغبة بامتطائه لجني ثمار عاجلة من دون توظيفه على وفق استراتيجيات طويلة الأمد، لذا سرعان ما تتلاشي اهميته حال تحقق الاهداف المنشودة لتلك الجهات :
وعلى هذا ظل الفعل الاعلامي متذبذبا، وبقيت طاقاته حبيسة الاطر الضيقة، بينما اريد له ان يكون قوة ساندة لعمليات التنمية، وبهذا الصدد يمكن الاشارة الى ما يأتي :
الإعلام في البيئات المتازمة – جليل وادي حمود – صفحة ١١٠
غياب المؤسسة الاعلامية
لم تتحول الفعالية الاعلامية الى مؤسسة حتى في الاوقات التي شهدت فيها امتدادا زمنيا، وظل استحداث المؤسسة الاعلامية مرهونا بالاعلام الرسمي، الذي غالبا ما تأدلج على وفق منطلقات السلطة التي توجهه، ومع ذلك اخذ الاعلام الرسمي شكل المؤسسة من دون ان تمتد سياقات المؤسسة الى جوهر حركته وآليات عمل منظومته، ويرتبط ذلك بعدم استناد الاستحداث على الاسس الحقيقية للمؤسسات بمعانيها الادارية، فضلا عن عدم الايمان بالعمل المؤسسي، اذ كان ينظر الى المؤسسة لابوصفها سياقات عمل معينة، بل الى حجم المنظومة الاعلامية ، من حيث المساحة التي تعمل فيها، والواجبات التي يفترض القيام بها. وبذلك شهدت المنظومة الاعلامية الرسمية تخبطا واضحا تمثل في الافتقاد الى استراتيجيات العمل العلمي، وعدم القدرة على توظيف الملاكات بكفاءة عالية، وصعوبة الاستفادة من الكفاءات المتوفرة، وضعف الالتزام بمعايير الجودة المتعلقة بالمنتج الاعلامي، وانتهاك المعايير المهنية في العمل، فضلا عن الفشل في تعزيز انتماء منتسبيها . _ ومع شحة مؤسسات الاعلام في القطاع الخاص الا ان الحقيقة تذهب الى ان هذه المؤسسات ليس لها من المؤسسة سوى الاسم، وكانت اسيرة لقرارات فردية تتسم بالمزاجية والارتجال، وعليه بقي الاعلام في بلادنا ولاسباب موضوعية وفنية وعبثية، حركة غير معروفة المديات لاتتيح امكانية توظيفها بالشكل الامثل لخدمة المجتمع، بخاصة ان وظائف الاعلام في عالمنا النامي والمتخلف في بعض مناطقه تختلف عن تلك التي يسعى اليها في العالم المتقدم. وبالرغم من ان فرصا واسعة توفرت للاعلام خلال تاريخه، الا انه لم يغتنم تلك الفرص بما يحوله الى مؤسسات هشاشة المنظومة بسبب هشاشة المنظومة غالبا ما كان الاعلام مجالا مخترقا سواء على مستوى القائمين عليه او العاملين فيه، اذ شكل الطارئون على هذه المهنة نسبة كبيرة، ما اغلق فرص العمل امام متخصصين اكفاء، ذلك ان نسبة كبيرة ممن
الإعلام في البيئات المتازمة – جليل وادي حمود – صفحة ١١١
يعملون في الاعلام لاتتوفر لديهم الحصيلة المعرفية الكافية التي تؤهلهم لاداء دور اعلامي مناسب، بل ان منهم من يفتقد للادوات التي لايمكن للاعلام القيام بدونها او القفز فوقها كاللغة والاسلوب وغيرهما، كما ان الكثير من الجهات التي قدر لها اطلاق وسائل اعلامية لاتمت لهذه المهنة بصلة، بل دفعتها مغريات عديدة لامتهان هذا المجال بضمن ذلك المغريات الاعلامية وامكانية التأثير في صناع القرار وتوطيد علاقات بمراكز القوى، ويعني ذلك ان نسبة لايستهان بها من العاملين في مجال الاعلام لم تتلق ما يكفي من التأهيل، ومع انعدام فرص التدريب او التعامل معها بنظرة ضيقة، صار المجال الاعلامي مجرد شكل يفتقد الى الجوهر، فضلا عن عدم انطوائه على حقيقة دوره، ما افقد هذه المنظومة مهنيتها والتجاوز على سياقاتها المعروفة، ولهذا فأن قصورا واضحا بدا في حركة الاعلام ازاء ما يجب القيام به، وعليه اتجه نحو مسارات سطحية من دون ان يقدم معالجات عميقة لمجموعة المشكلات التي يتعرض لها المجتمع، وبدلا من ان يسهم في تشكيل ثقافة مستنيرة ، مارس تسطيحا ثقافيا كان من ابرز نتائجه تمزق النسيج الاجتماعي وانخفاض مستوى الولاء الوطني والتميع مع ثقافات فرعية واخرى ضيقة، واللامبالاة ازاء التحديات المختلفة ومن المؤكد ان غياب معايير دقيقة وواضحة لمهنة الاعلام، وانتهاك السياقات، وافتقاد التشريعات المناسبة وغيرها من العوامل ساهمت بفاعلية في هشاشة المنظومة الاعلامية.
الوظيفة الديكورية
مع ان للاعلام وظائف اخبارية وثقافية وترويجية وترويحية، الا انه لم يتمكن من اداء هذه الوظائف بالقدر الكافي، ذلك ان العديد من الجهات وبخاصة السياسية منها اتخذت منه ديكورا اكثر منه مشغلا لانتاج الرسائل التنموية ، لذلك لم تعلق تلك الجهات على طبيعة التأثيرات التي يراد لوسائل الاعلام احداثها في الجمهور، لانها بالاصل لاتعرف مدى حصول التأثيرات، واكتفت بوصول الرسالة من دون متابعة العمليات اللاحقة لها. وقد يقود مثل هذا الاعلام الى نتائج سلبية غير
الإعلام في البيئات المتازمة – جليل وادي حمود – صفحة ١١٢
مرئية لايمكن تلمس ابعادها الا بعد مرور سنوات تكون عندها عمليات تعديل الخطاب غير مجدية، والا بماذا نفسر شيوع ظواهر غير مرغوب بها في مجتمعنا. واتضحت الوظيفة الديكورية جليا بعد التغيير السياسي الذي حصل في 4/9/ 2003 ، اذ اتخذ من اصدار الصحف واطلاق الفضائيات ادوات لتأكيد الحضور السياسي وغيرها من الاغراض من دون الالتفات الى الوظائف الاساسية للاعلام الا بحدود ضيقة جدا.
افتقاد الاستراتيجيات
لم يستند العمل الاعلامي على اختلاف اشكاله سواء اكان حكوميا ام مستقلا الى استراتيجيات قصيرة او بعيدة المدى، بل كان الارتجال وردود الفعل والعشوائية هي السمات السائدة في العمل، لذا غالبا ما تتغير اهتمامات الوسائل تبعا لتغير القيادة الاعلامية، وانشغلت تلك الوسائل بملء المساحات الورقية والزمنية من دون التوقف عند ابعاد المضامين المنشورة والتأثيرات المحتملة التي يمكن ان تحدثها ، واقتصر وقوفها عند المضامين التي تتعارض مع توجهات السياسة التحريرية للوسيلة ، وبذلك شكل غياب الاستراتيجيات الاعلامية مشكلة مزمنة في الاعلام العراقي، ما قاد الى الاخفاق في الوصول الى الغايات المطلوبة، بينما يتطلب احداث التحولات المختلفة وبما يتوافق مع خطط التنمية الوطنية استراتيجيات اعلامية مدروسة بعناية فائقة ومتسمة بالوضوح والدقة والمرونة
الإعلام في البيئات المتازمة – جليل وادي حمود – صفحة ١١٣